عالم كرة القدم متقلب وعديم الثبات لا* يمكن فيه لا لقارئة الفنجان ولا لغيرها أن* يتكهن بخباياه*. ويعرف الجميع أيضاً* أن هذه المستديرة التي* تتربع على عرش قلوب عشاق الرياضية تتكلم لغة موحدة،* قاعدتها الفوز أو رأس المدرب*.
ينطبق ما ذكرناه آنفاً* على معظم المدربين في* جميع أصقاع المعمورة سواء كانوا مع فرقهم أو منتخباتهم*. لكن عادةً* ما تخضع نتائج مدربي* المنتخبات العريقة وسياستهم وتكتيكاتهم وخططهم،* لفحص مخبري* دقيق،* وتوضع تحت المجهر بشكل مبالغ* فيه في* أغلب الأحيان*. فكم حري* بهذا الأمر أن* يتجسد بكل معانيه إذا كان المدرب الذي* سنتكلم عنه هو مدرب منتخب فرنسا*.
لا شك أن ريمون دومينيك مدرب* »منتخب الديوك*« جاء في* وقت* »غير مناسب*« لا* يُحسد عليه إطلاقاً،* جعله عرضةً* لسهام الانتقادات،* وجعل سيف الإقالة مسلطاً* عليه منذ اللحظة الأولى لتوليه المسؤولية في* عصرٍ* ذهبيٍ* للكرة الفرنسية أسسه إيميه جاكيه،* وكان بطله زيدان،* وحصاده كوكبةٌ* من خيرة أفضل لاعبي* أندية أوروبا العملاقة*.
ومما زاد في* الطين بلّه وعقّد مهمة دومينيك تواجده في* فرنسا،* أرض الصحافة وموطن الثقافة والعلم منذ فجر التاريخ،* حيث تُعتبر السلطة الرابعة فيها قوة تنفيذية حقيقية تتساوى والسلطة الأولى في* مكان ما*.
تزايد الضغوطات
وسط هذه البيئة التي* لا مجال فيها لزلة قدم ولا تتفهم أن الأخطاء هي* سمةٌ* بشريةٌ* أو تغض الطرف عن ذلك عمداً* لتلزم نفسها نظرية الفوز ثم الفوز،* وقع دومينيك في* المحظور وأخفق مراراً* وتكراراً،* ليضع نفسه في* عين العاصفة التي* تعددت روافدها وصبت جام* غضبها عليه،* محاولة اقتلاعه من جذوره والإطاحة به*.
ويتضاعف الضغط* يوماً* بعد* يوم على دومينك في* ظل بروز قافلة من المدربين الفرنسيين الذين* يخوضون معترك كرة القدم الأوروبية بنجاح كبير،* على سبيل المثال لا الحصر،* مدرب آرسنال الإنجليزي* أرسين فينغر ومدرب بوردو الفرنسي* لوران بلان ومدرب مرسيليا الفرنسي* ديدييه ديشان،* بالإضافة إلى مدرب ليون كلود بويال*. كل هذا وقائد سفينة* »الديوك*« الذي* أضحى المدرب الأشهر في* فرنسا لا لإنجازاته إنما بسبب إخفاقاته المتكررة،* صمد في* مكانه ولم* يتزحزح بمباركة من رئيس الاتحاد الفرنسي* لكرة القدم جان بيار إسكاليت،* وها هو اليوم* يتحفز لإعلان تشكيلته في* 11* ماي* القادم،* والتي* سيخوض بها* غمار نهائيات كأس العالم لكرة القدم في* جنوب إفريقيا*.
مشكلة دومينيك
يقول البعض في* بلاد الإمبراطور نابوليون إن دومينيك خبير تكتيكي* من الطراز الأول،* لكن مشكلته أنه جاء إبان حقبة ذهبية تكللت بإنجازات تاريخية،* فكان مطالَباً* بأكثر مما* يمكن لأعظم المدربين أن* يقدم لو وجد مكانه*. هي* ربما طريقة لتفهّم أو تبرير ماذا* يحصل مع هذا المدرب* غريب الأطوار منذ استلامه مهمة قيادة الديوك في* 12* جويلية* 2004* خلفاً* لجاك سانتني* الذي* أقيل بعد خيبة* يورو البرتغال،* لكن وفي* الحقيقة أن أحداً* لا* يمكن تأكيد صحة هذه النظرية أو نفيها باستثناء التاريخ*. لذا فإن الوقت كفيل بإظهار صورة بطل العالم لعام* 1998* يوم* يرحل دومينيك عنه ويسلم مفاتيح القيادة لخلفه*.
لوبي* 1998
ويذهب أشد المناهضين لدومينيك ومنتقديه للقول أن الفرنسي* البالغ* 58* عاماً،* لم* يستطع تحقيق أي* إنجاز ولو بسيطا* يشفع له،* ويروي* ظمأ عيون الفرنسيين المتعطشة إلى نور المجد من جديد،* لا سيما أنهم* ينسبون وصول المنتخب إلى المباراة النهائية لكأس العالم* 2006* في* ألمانيا،* إلى تألق زين الدين زيدان أعظم لاعب على الإطلاق في* تاريخ فرنسا*. حتى أنهم قالوا*: »لولا* »نطحة*« زيدان الشهيرة لمدافع منتخب إيطاليا ماركو ماتيراتزي* ربما لكان تغيير السيناريو،* وحتى لو كان الفوز من نصيب فرنسا،* لما كان لدومينيك جزء* يسير من هذا الإنجاز*«.
ويضيفون*: »رغم بلوغ* فرنسا نهائيات كأس العالم* 2006* و2010* وكأس أمم أوروبا* 2008،* فإن ذلك لا* يُحسب لدومينيك؛ كونه* يمتلك ترسانة من النجوم كان لها الفضل الأكبر في* ذلك*«.
ويعتقد دومينيك أن فرنسا أصبحت تكرهه ليس بسبب شخصيته الفذة أو لسانه السليط أو نتائجه مع المنتخب،* بل بسبب ما* يُعرف بــ* »لوبي* 1998*«،* الذي* لا* يوفر مناسبةً* إلا ويطلق فيها نباله باتجاهه،* وكون أن معظم لاعبي* تلك الحقبة* يمتلكون شعبية كبيرة في* فرنسا،* وتميل الصحافة إلى أخذ كلامهم على محمل الجد،* فقد أصاب دومينيك ما أصابه*. ويقول دومينيك في* معرض تلخيصه لما* يجري* من حوله*: »هم لا* يسامحونني* على شيء؛ لم أشعر* يوماً* بدعم اللاعبين الذين صنعوا ذلك المجد* (الفوز بكأس العالم* 1998*)«.
النقمة
ومما ساهم في* زيادة النقمة على المدرب* »الديكتاتور*«،* كما* يحلو للبعض أن* يصفه،* اصطدامه برموز الكرة الفرنسية التي* يكنّ* لها الشارع الفرنسي* احتراماً* كبيراً،* فهو دخل في* مناوشات كلامية مع أرسين فينغر وإريك كانتونا وزين الدين زيدان،* كما تعرّض لانتقادات* غير مباشرة من رئيس الاتحاد الأوروبي* لكرة القدم الفرنسي* ميشال بلاتيني،* حين استبعد فوز منتخب فرنسا بلقب كأس العالم*.
وتكمن مشكلة دومينيك،* حسب خبراء الكرة الفرنسية،* في* عدم تمكنه من الاعتماد على تشكيلة واحدة،* وذلك بسبب استراتيجيته المبهمة في* اختيار اللاعبين وعدم ارتكازه على تشكيلة واحدة تؤمّن الحد الأدنى من التناغم والانسجام*.
في* المقابل،* يحظى دومينيك بدعم بعض صقور الكرة الفرنسية وعلى رأسهم رئيس الاتحاد،* وهو الذي* يدافع باستمرار عن خيرات مدربه،* ويؤكد أن ترسانته تقل شأناً* عن ترسانة نظيره جاكيه،* وأن المقارنة لا تجوز بين الحقبتين،* فتييري* هنري* لم* يعد ذلك الغزال الأسمر،* وهو أمضى الموسم الحالي* بديلاً* مع برشلونة*. أما باتريك فييرا فهو بعيد بمسافات ضوئية عما كان عليه،* في* الوقت الذي* يُتهم الجيل الجديد بتذبذب مستواه وعدم ارتقائه إلى المستوى الذي* يخول دومينيك الارتكاز على تشكيلة أساسية تثبّت هوية المنتخب الحالي*.
الخيبات
وفي* الحقيقة،* ولو أردنا العودة بشكل سريع إلى السنوات الأربع الماضية،* نرى أن المنتخب الفرنسي* عانى الأمرّين وكان لاعبوه* »أشباحاً*«،* خلافاً* لما هم عليه مع أنديتهم*. فخروجهم من كأس أمم أوروبا* 2008* في* النمسا وسويسرا كان مخيباً* وقاسياً* جداً* على عشاقهم*. وطريقهم في* التصفيات إلى جنوب إفريقيا كانت سحيقة وعميقة ومحفوفة بالمخاطر،* فعابها الكثير حتى وصلت بشق الأنفاس إلى بر الأمان بعد مباراة* »هيتشكوكية*« أمام إيرلندا،* أنقذت فيها* يد تييري* هنري* حلم الفرنسيين ورأس دومينيك على حد سواء،* وجعلت حبر الأقلام تسيل بغزارة*.
إثبات الذات على قاعدة* "خالف تُعرف*"
وبعيداً* عن التحاليل الكروية التي* نسمعها هنا وهناك،* منها ما هو موضوعي* ومنها التي* يطلَق من أجل إثبات الذات على قاعدة* »خالف تُعرف*«،* فإن من* يريد انتقاد دومينيك* يمكنه أن* يجلس لساعات ويحاضر في* التكتيك واستراتيجية اللعب* (الكلام أسهل من الفعل*!). لكن المرجع الرسمي* الوحيد المخوّل قياس نجاحاته أو إخفاقاته هو اللجنة الفنية التابعة للاتحاد الفرنسي* لكرة القدم أو مدرب تفوق خبرته خبرة دومينيك،* وله باع طويل في* كرة القدم الدولية،* ويعرف خصوصية الكرة الفرنسية*.
الصحافي* والمحلل
وإذا كانت كرة القدم للجميع فإن التحليل والنقد هو فقط* »للخبراء*«. وهنا* يكمن الالتباس الحقيقي* بين المحلل والصحافي*. فالصحافي* أو الإعلامي* وفي* حال أراد أن* يكون أميناً* وموضوعياً* يمكنه انتقاد النتائج،* ومن ثم تحليلها بعيداً* عن تناول المدرب بشخصه،* ذلك أن أحداً* لا* يعلم قدرة اللاعبين وكيفية تجانسهم وتأقلمهم مع المهمات والمواقع التي* توكل لهم أكثر من المدرب الذي* يعيش معهم ويعايش تفوقهم وخيباتهم،* ويستمع إلى هواجسهم وهمومهم،* ويعرف ماذا* يجري* في* كواليس الملاعب قبل انطلاق أية مباراة*.
لكن وفي* المقابل* يجوز للمحللين ذات الخلفية الكروية العميقة والراسخة،* إبداء رأيهم ومحاولة إعطاء بعض الحلول،* بالإضافة إلى الإضاءة على الثغرات التكتيكية بموضوعية مطلقة لا مكان فيها للعاطفة أو الانحياز*.
صيام دومينيك عن تحقيق أي* لقب مع منتخب فرنسا هل هو الطريق إلى التاريخ والمجد في* جنوب إفريقيا؟
قد* يكون صيام دومينيك عن تحقيق أي* لقب مع منتخب فرنسا طريقه إلى التاريخ والمجد في* جنوب إفريقيا؛ إذ أن* »منتخب الديوك*« قادر على مقارعة أفضل المنتخبات على المستوى الفني* والتكتيكي* والبدني،* ناهيك عن أن النتائج في* كرة القدم لا تُحسم إلا في* المستطيل الأخضر*. ويشهد على ذلك ما حققه منتخب اليونان في* كأس أمم أوروبا* 2004* حين أطاح بأبرز المرشحين للفوز باللقب،* وعاد إلى أثينا قيصراً* لأوروبا بعدما كان قد* غادرها على أمل تخطي* الدور الأول*.